كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقول من قال: إن فرجها الذي نفخ فيه الملك هو جيب درعها ظاهر السقوط، بل النفخ الواقع في جيب الدرع وصل إلى الفرج المعروف فوقع الحمل.
وقد بين تعالى في مواضع أخر، أن ذلك الذي خافت منه وهو قذفهم لها بالفاحشة- قد وقعت فيه، ولكت اله برأها، وذلك كقوله عنهم: {قَالُواْ يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم: 27] يعنون الفاحشة، وقوله عنهم، {يا أخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] يعنون فكيف فجرت أنت وجئت بهذا الولد؟ وكقوله عالى {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء: 156].
وقوله: {مكانًا قصيًا} القصي، البعيد، ومنه قول الراجز:
لتقعدن معقد القص ** مني ذي القاذورة المقلي

أو تحلفي بربك العلي ** أني أبو ذيالك الصبي

وهذا المكان القصي قد وصفه الله تعالى في غير هذا الموضع بقوله: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50]. وقوله في هذه الآية الكريمة: {فانتبذت به} أي انتبذت وهو في بطنها. والإشارة في قوله هذا إلى الحمل والمخاض الذي أصابها للوضع.
وقوله في هذه الآية الكريمة عنها: {وكنت نسيًا منسيًا} النسي والنِّسي- بالكسر وبالفتح-: هو ما من حقه أن يطرخ وينسى لحقارته، كخرق الحيض، وكالوتد والعصا، ونحو ذلك. ومن كلام العرب إذا ارتحلوا عن الدار قولهمك انظروا أنساءكم جمع نسي؟ أي الأشياء الحقيرة التي من شأنها أن تترك وتنسى كالعصا والوتد. ونحو ذلك. فقولها {وكنت نسيًا} أي شيئًا تافهًا حقيرًا من حقه أن يترك وينسى عادة. وقولها {منسيًا} تععني أن ذلك الشيء التافه الذي من عادته أن يترك وينسى قد نسي وطرح بالفعل فوجد فيه النسيان الذي هو حقه. وأقوال المفسرين في الآية راجعة إلى ما ذكرنا، ومن إطلاق النسي على ما ذكرنا قول الكميت:
أتجعلنا جسرًا لكلب قضاعة ** ولست بنسي في معد ولا دخل

فقوله: (بنسي) أي شيء تافه منسي. وقوله الشنفرى:
كان لها في الآرض نسيًا تقصه ** على أمها وإن تحدثك تبلت

فقوله: (نسيًا) اي شيء تركته وتسيته. وقوله: (تبلت) بفتح التاء وسكون الباء الموحدة وفتح اللام بعدها تاء التأنيث- أي تقطع كلامها من الحياء. والبلت في اللغة: القطع. وقرأ نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي (يا ليتني مت) بكسر الميم. وقرأ الباقون (مت) بضم الميم. وقرأ حفص عن عاصم وحمزة،: {وكنت نسيًا} بفتح النون. والباقون بكسرها، وهما لغتان فصيحتان، وقراءتان صحيحتان.
تنبيه:
قراءة: {مت} بكسر الميم كثيرًا ما يخفى على طلبه العلم وجهها. لأن لغة مات يموت لا يصح منه {مت} بكسر الميم. ووجه القراءة بكسر الميم أنه من مات يمات، كخاف يخاف. لا من مات يموت. كقال يقول: فلفظ مات فيها لغتان عربيتان فصيحتان، الأولى منهما موت بفتح الواو فأبدلت الواو ألفًا على القاعدة التصريفية المشار لها بقوله في الخلاصة:
من ياء أو او بتحريك أصل ** ألفا إبدل بعد فتح متصل

إن حرك الثاني.... إلخ. ومضارع هذه المفتوخة (يموت) بالضم على القياس وفي هذه ونحوها إن أسند الفعل إلى تاء الفاعل أونونه سقطت العين بالاعتلال وحركت الفاي بحركة تناسب العين، والحركة المناسبة للواو هي الضمة، فتقول (مت) بضم الميم، ولا يجوز غير ذلك.
الثانية أنها (موت) بكسر الواو، أبدلت الواو ألفًا للقاعدة المذكرة آنفًا. ومضارع هذه (يمات) بالفتح، لأن فعل بكسر العين ينقاس في مضارعها بفعل بفتح العين، كما قال ابن مالك في اللامية:
وافتح موضع الكسر في المبنى من فعلا

ويستثنى من هذه القاعدة كلمات معروفة سماعية تحفظ ولا يقاس عليها. والمقرر في فن الصرف: أن كل فعل ثلاثي أجوف أعنى معتل العين إذا كان على وزن فعل بكسر العين، أو فعل بضمها فإنه إذا أسند إلى تاء الفاعل أو نونه تسقط عينه بالاعتلال وتنقل حركة عينه الساقطة بالاعتلال إلى الفاء فتكسر فاؤه إن كان من فعل بكسر العين، وتضم إن كان من فعل بضمها. مثال الأول- (مت) من مات يمات، لأن أصلها (موت) بالكسر وكذلك خاف يخاف، ونام ينام، فإنك تقول فيها (مت) بكسر الميم، و(نمت) بكسر للنون، (وخفت) بكسر الخاء. لأن حركة العين نقلت إلى الفاء وهي الكسرة. ومثاله في الضم (طال) فأصلها (طول) بضم الواو فتقول فيها (طلت) بالضم لنقل حركة العين إلى الفاء. أما إذا كان الثلاثي من فعل بفتح العين كمات يموت، وقال يقول: فإن العين تسقط بالاعتدال وتحرك الفاء بحركة مناسبة للعين الساقطة فيضم الفاء إن كانت العين الساقطة واوًا كمات يموت، وقال يقول: فتقول مت وقلت.- بالضم- وتكسر الفاء إن كانت العين الساقطة ياؤ، كباع وسار، فتقول: بعت وسرت بالكسر فيهما. وإلى هذا اشار ابن مالك في اللامية بقوله:
وانقل لفاء الثلاثي عين إذا اعتلت ** وكان بنا الإضمار متصلًا

أو نونه وإذا فتحا يكون منه ** اعتض مجانس تلك العيم منتفلا

واعلم أن مات يمات، من فعل بالكسر يفعل بالفتح لغة فصيحة، ومنها قول الراجز:
بنيتي سيدة البنات ** عيشي ولا نأمن أن تماد

وأما مات يميت فهي لغة ضعيفة. وقد اشار إلى اللغات الثلاث الفصيحتين والردية بعض أدباء قطر شنقيط في بيت رجز هو قوله:
من منعت زوجته منه المبيت ** مات يموت ويمات ويميت

وأقوال العلماء في قدر المدة التي حملت فيها مريم قبل الوضع لم نذكرها، لعدم دليل على شيء منها. وأظهرها: أنهحمل كعادة حمل النساء وإن كان منشؤه خارقًا للعادة، والله تعالى أعلم.
{فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)}.
اعلم أولًا: أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين: قرأه نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ} بكسر الميم على أن من حرف جر، وخفض تاء تحتها، لأن الظرف مجرور ب من . وقرأه ابن كثير وأبو عمر، وابن عامر وشعبة عن عاصم، {فنادها من تحتها} بفتح ميم {من} على أنه تس موصول هو فاعل نادى، أن ناداها الذي تحتها. وفتح أي {تحتها} فعلى القراءة الأولى ففاعل النداء ضمير محذوف. وعلى الثانية فالفاعل الاسم الموصول الذي هو {من}.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن العلماء مختلفون في هذا المنادى الذي ناداها المعبر عنه في إحدى القراءتين بالضمير، وفي الثانية بالاسم الموصول من هو؟ فقال بعض العلماء: هو عيسى. وقال بعض العلماء: هو جبريل. ممن قال: إن الذي نادى مريم هو جبريل- ابن عباس، وعمرو بن ميمون الأودي، والضحاك، وقتادة، والسدي، وسعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه. وأهل هذا القول قالوا: لم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها.
وممن قال إن الذي نادها هو عيسى عندما وضعته- أبي، ومجاهد، والحسن، ووهب بن منبه، وسعيد بن جبير في الرواية الأخرى عنه وابن زيد.
فإذا كلمت ذلك فاعلم أن من قال إنه الملك يقول: فناداها جبريل من مكان تحتها، لأنها على ربوة مرتفعة، وقد ناداها من مكان منخفض عنها، وبعض أهل القول يقول: كان جبريل تحتها يقبل الولد كما تقبله القابلة. والظاهر الأول على هذا القول. وعلى قراءة: {فناداها من تحتها} بفتح الميم وتاء {تحتها} عند أهل هذا القول. فالمعنى فنادها الذي هو تحتها اي في كان أسفل من مكانها، أو تحتها يقبل الولد كما تقبل القابلة مع ضعف الاحتمال الأخير كما قدمنا، أي وهو جبريل فعلى القراءة الأولى على القول {فناداها} هة أي جبريل من تحتها. وعلى القراءة الثانية {فنادها من تحتها} اي الذي تحتخا وهو جبريل. وأما على القلة بأن المنادى هو عيسى، فالمعنى على القراءة الأولى: فناداها هو أي المولود الذي وضعته من تحتها. لأنه كان تحتها عند الوضع. وعلى القراءة الثانية: {فناداها من تحتها} أي الذي تحتها وهو المولود المذكور الكائن تحتها عند الوضع. على القراءة الثانية: {فناداها من تحتها} أي الذي تحتها وهو المولود المذكور الكائن تحتها عند الوضع. وممن اختار أن الذي ناداها هو عيسى: ابن جرير الطبري في تفسيره، واستظهره أبو حيان في البحر، واستظهر القرطبي أنه جبريل.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي أن الذي ناداها هو ابنها عيسى، وتدل على ذلك قرينتان: الأولى- أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور إلا بدليل صارف عن ذلك يجب الرجوع إليه، وأقرب مذكور في الآية هو عيسى لا جبريل لأن الله قال: {فَحَمَلَتْهُ} [مريم: 22] يعني عيسى {فانتبذت بِهِ} [مريم: 22] أي بعيسى، ثم قال بعده: {فناداها} فالذي يظهر ويتبارد من السياق أنه عيسى. والقرينة الثانية- أنها لما جاءت به قولها تحملهن وقالوا لها ما قالوا أشارت إلى عيسى ليكلموه. كما قال تعالى عنها: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيًّا} [مريم: 29] وإشارتها إليه ليكلموه قرينة على أنها عرفت قبل ذلك أنه يتكلم على سبيل خرق العادة لندائه لها عندما وضعته. وبهذه القرينة الأخيرة استدل سعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه على أنه عيسى. كما تقله عنه غير واحد. و أن في قوله: {ألاتحزني} هي المفسرة، فهي بمعنى أي. وضابط أن المفسرة أن يتقدمها معنى القول دون حروفه كما هنا. فالنداء فيه بمعنى القول دون حروفه ومعنى كونها مفسرة: أن الكلام الذي بعدها هومعنى ما قبلها. فالنداء المذكور قبلها هو: لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا.
واختلف العلماء في المراد بالسري هنا. فقال بعض العلماء: هو الجدول وهو النهر الصغير. لأن اله اجرى لها تحتها نهرًا. وعله فقوله تعالى: {فكلي} أي من الرطب المذكور في قوله: {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25] أي من النهر المذكور في قوله: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} وإطلاق السري على الجدول مشهور في كلام العرب. ومنه قول لبيد في معلقته:
فتوسطا عرض السري وصدعا ** مسجورة متجاورًا قلامها

وقول لبيد أيضًا يصف نخلًا نابتًا على ماء النهر:
سحق يمتعها الصفا وسريه ** عم نواعم بينهم كروم

وقول الآخر:
سهل الخليفة ماجد ذو نائل ** مثل السري تمده الأنهار

فقوله: (سريه). وقولهما (السري) بمعنى الجدول. وكذلك قول الراجز:
سلم ترى الدالي منه أزورا ** إذا يعب في السري هرهرا

وقال بعض أهل العلم: السري هو عيسى. والسري هوا لرجل الذي له شرف مروءة. يقال في فعله سرو بالضم. وسرا- بالفتح- يسرو سروا فيهما. وسري- بالكسر- يسري سري وسراء وسروا إذا شرف. ويجمع السري هذا على أسرياء على القياس، وسرواء وسراة بالفتح. وعن سيبويه إن السراة- بالفتح- اسم جمع لا جمع. ومنه قول الأفوه الأودي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ** ولا سراة إذا جهالهم سادوا

ويجمع السراة على سروات. ومنه قول قيس بن الحطين:
وعمرة من سروات النساء ** تنفح بالمسك أردانها

ومن إطلاق السري بمعنى الشريف قول الشاعر:
تلقى الشري من الرجال بنفسه ** وابن الشري إذا سرى أسراهما

وقوله: (أسراهما) اي أشرفهما. قاله في اللسان.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي أن السري في الآية النهر الصغير، والدليل على ذلك أمران:
أحدهما- القرينة من القرآن، فقوله تعالى: {فَكُلِي واشربي} [مريم: 26] قرينة على أن ذلك المأكول والمشروب هو ما تقدم الامتنان به في قوله: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}، وقوله: {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25]، وكذلك قوله تعالى: {وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50] لأن المعين: الماء الجاري. والظاهر أن الجدول المعبر عنه بالسري في هذه الآية. والله تعالى أعلم.
الأمر الثاني- حيديث جاء بذلك عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: وقد جاء بذلك حديث مرفوع، قال الطبراني: حدثنا أبو شعيب الحراني، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلي، حدثنا أيوب بن نهيك، سمعت عكرمة مولى ابن عابس، سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن السري الذي قال الله لمريم: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}، نهر أخرجه الله لها لتشرب منه» وهذا حديث غريب جدًا من هذا الوجه. وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلى، قال فيه أبو حاتم الرزاي: ضعيف. وقال أبو زرعة: منكر الحديث. وقال أبو الفتح الأزدي: متروك الحديث- انتهى كلام ابن كثير. وقال ابن حجر رحمه الله في (الكافي الشاف، في تخريج أحاديث الكشاف) في الحديث المذكور: أخرجه الطبراني في الصغير، وابن عدي من رواية أبي سنان سعيد بن سنان، عن أبي إسحاق، عن البراء عن النَّبي صلى الله عليه ويلم في قوله تعالى: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} قال: (السري النهر) قال الطبراني: لم يرفعه عن أبي إسحاق إلا أبو سنان، رواه عنه يحيى بن معاوية وهم ضعيف. وأخرجه عبد الرزاق، عن الثوري، عن أبي إسحاق عن البراء موقوفًا. وكذا ذكره البخاري تعليقًا عن وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق. ورواه ابن مروديه من طريق آدم، عن إسرائيل كذلك وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن أبي إسحاق موقوفًا. وفي الباب عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «إن السري الذي قاله لمريم أخرجه الله لتشرب منه». أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية في ترجمة عكرمة عن ابن عمر، وروايه عن عكرمة أيوب بن نهيك ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة- انتهى.
فهذا الحديث المرفوع إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت طرقه لا يخلو شيء منها من ضعف- اقرب إلى الصواب من دعوى أن السري عيسى بغير دليل يجب الرجوع إليه. وممن اختار أن السري المذكور في الآية النهر-: ابن جرير في تفسيره، وبه قال البراء بن عازب، وعلي بن ابي طلحة، عن ابن عباس. وعمر بن ميمون، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاكن وإبراهيم النخعي، وقتادةن ولاسدي، ووهب بن منبه وغيرهم. وممن قال إنه عيسى: الحسن، والربيع بن انس، ومحمد بن عباد بن جعفر. وهو إحدى الروايتين عن قتادة. وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قاله ابن كثير وغيره.
قوله تعالى: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي واشربي وَقَرِّي عَيْنًا}.
لم يصرح جل وعلا في هذه الآية الكريمة ببيان الشيء الذي أمرها أن تأكل منه، والشيء الذي أمرها أن تشرب منه. ولكنه أشار إلى أن الذي أمرها أن تأكل منه هو (الرطب الجني) المذكور. والذي أمرها أن تشرب منه هو النهر المذكور المعبر عنه (بالسري) كما تقدم- هذا هو الظاهر.
وقال بعض العلماء: إن جذع النخلة الذي أمرها أن تهز به كان جزعًا يابسًا؛ فلما هزته جعله الله نخلة ذات رطب جني. وقال بعض العلماء: كان الجذع جذع نخلة نابتة إلا أنها غير مثمرة، فلما هزته أنبت الله فيه الثمر وجعله رطبًا جنيًا. وقال بعض العلماء: كانت النخلة مثموة، وقد أمرها الله بهزها ليتساقط لها الرطب الذي كان موجودًا. والذي يفهم من سياق القرآن: أن الله أنبت لها ذلك الرطب على سبيل خرق العادة، وأجرى لها ذلكالنهر على سبيل خرق العادة. ولم يكن الرطب والنهر موجودين قبل ذلك، سواء قلنا إن الجذع كان يابسًا أو نخلة غير مثمرة، إلا أن الله أنبت فيه الثمر وجعله رطبًا جنيًا. ووجع دلالة السياق على ذلك أن قوله تعالى: {فَكُلِي واشربي وَقَرِّي عَيْنًا} يدل على أن عينها إنما تقر في ذلك الوقت بالأمور الخارقة للعادة؛ لأنها هي التي تبين براءتها مما اتهموها به. فوجود هذه الخوارق من تفجير النهر، وإنبات الرطب، وكلام المولود تطمئن إليه نفسها وتزول به عنها الريبة، وبذلك يكون قرة عين لها؛ لأن مجرد الأكل والشرب مع بقاء التهمة التي تمنت بسببها أن تكون قد ماتت من قبل وكانت نسيًا منسيًا لم يكن قرة لعينها في ذلك الوقت كما هو ظاهر. وخرق الله لها العادة بتفجير الماء، وإنبات الرطب، وكلام المولود لا غرابة فيه. وقد نص الله جل وعلا في (آل عمران) عل خرقه لها العادة في قوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إنًّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37]. قال العلماء: كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف. وإجراء النهر وإنبات الرطب ليس أغرب من هذا المذكور في سورة (آل عمران).